غرس القيم الدينية والتربوية وبناء الإنسان

بلاغة القرآن: اختيار اللفظة المناسبة في المكان المناسب

ومن عجائب القرآن اختيار اللفظة المعينة التي لا يمكن أن يقوم غيرها مقامها، كما لو تأملت في قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [سورة التوبة:32].

لماذا استعمل “يطفئ” ولم يستعمل مثلاً “يخمد” وكلاهما يستعمل في النار، لكن العرب تفرق بين الإطفاء والإخماد. 

متى تستعمل العرب الإطفاء أو تستعمله مع ماذا؟ في أي حالة؟ والإخماد في أي حالة؟

العرب تستعمل كليهما في النار.

العرب تفرق بين الإطفاء والإخماد مع أن كليهما مستخدم في النار من جهة أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير والإخماد يستعمل في الكثير فقط.

فإذن، ما يمكن تقول شبّت نار في علبة المناديل أخمدناها، لا تأتي، عند العرب الإخماد في النار الكبير.

الإطفاء في الحالين، في النار القليلة والنار الكثيرة، يصح أن يقال “أطفأ الحريق الكبير”، “أطفأ الحريق الصغير”، “أطفأ الشعلة”، “أطفأ الشمعة”، وأطفأ الحريق”.

لكن “أخمد” أخمدت الشمعة، لا تأتي.

ما علاقته بموضوع الآية؟ الكفار يريدون إبطال أي شيء يستطيعون إبطاله من الدين قليلاً أو كثيراً، فيحاولون يا محمد ﷺ، ويا أيها المؤمنون السائرون على طريقه أن يحرفوكم عن دينكم أو يضروكم في دينكم أو ينقصوا من دينكم أو يحاربوا من دينكم القليل والكثير.

ما استطاعوا، لو استطاعوا أن يجعلوكم تتركون سنة سيفعلون ذلك، ولو استطاعوا أن يجعلوكم تتركون الدين كله سيفعلون ذلك. يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ

يعني ما استطاعوا، ما استطاعوا من النور قليل أو كثير.

يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وحتى كلمة أفواههم بيان العجز، من الذي يستطيع أن يطفئ نور الله بفمه؟ فمه فقط يطفئ نور الله؟ وإضافة النور إلى الله تعني القوة، أنه قوي وعظيم، نور الله، وهؤلاء بأفواههم فقط، يعني لن يستطيعوا، فهيا معنى البشارة.

إذن، فيها أن الكفار يسعون لإطفاء الدين بالقليل والكثير، بعض الدين، كل الدين، ما أمكنهم.

ثم إن إضافة النور إلى الله تفيد القوة، وأن هذا النور منتشر، نور الله لا يمكن أن ينطفئ.

ثم إن بيان عجز بيان الكفار فيه بشارة للمؤمنين أن الكفار مهما عملوا سيعجزون؛ لأن أفواههم لا تستطيع أن تطفئ نور الله، فكيف إذا أكّد البشارة بقوله: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [سورة الصف:8].

فكل كلمة مقصودة، ولها معنى معين، ولها فائدة معينة في محلها المعين، وهكذا.

وتأمل قول الله: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ.

هذه العبارة جاءت للتشنيع على امرأة العزيز، وقوله “امرأة” فيه تشنيع باعتبار الوضع العائلي، امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ فيها تشنيع.

النسوة في المدينة قالوها وقد استبشعوا واستشنعوا ما فعلته امرأة العزيز، ومثل هذه المرأة بالتأكيد لها أعداء وحساد على مكانتها، فإذا وقعت لها سقطة وزلّت زلّة بالتأكيد ستطير بين النساء في كلامهن وثرثرتهن ونشرهن للخبر.

فلا شك أن العبارة عبارة تشنيع على امرأة العزيز، لكن وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ [سورة يوسف:30].

تأمل الآن اختيار الألفاظ للدلالة على التشنيع، ما قالوا: فلانة، ولا زليخة تراود فتاها عن نفسه، لا، امْرَأَتُ الْعَزِيزِ فكلمة امرأة تدل على التشنيع من جهة الحالة العائلة، إن هذه المرأة متزوجة، ثم تفعل بهذا الفعل؟ يعني لم تكتفِ بزوجها ومدّت نفسها وعينها إلى الحرام.

فصاحبة الفضيحة امرأة متزوجة وفعلها تصرف مشين، ولو كان امرأة غير متزوجة سيكون الوضع أقل في الفضيحة امْرَأَتُ الْعَزِيزِ [سورة يوسف:30]. بالنسبة للوضع الطبقي صاحبة الفضيحة هذه ليست امرأة واحد فقير أو مغمور، هذه امرأة العزيز.

فالتشنيع فيها أكبر، والتقبيح أكبر، والفضائح المتسربة من علية القوم دويها أكبر، والتشفي والنكاية والانتقام سيكون من جهة النساء بالتالي أكبر.

فضيحة الأكابر كبرى الفضائح، ثم قولهن: تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ.

تراود باعتبار الوضع النوعي صاحبة الفضيحة خرجت عن المعهود من بنات جنسها وتنكرت للحياء الجبلّي، هي الآن ما استجابت لدعوته لها للفاحشة، ليس هو الذي دعاها، العادة أن المرأة مطلوبة والرجل طالب، حتى في الحرام، الرجل طالب والمرأة مطلوبة، لكن نجد الآن أنهن قلن: ” تُرَاوِدُ” فصارت هي الطالبة، وهذا أنكى في التشنيع.

ثم إن لفظة “المراودة” تعني الفرق بين تراود وامرأة العزيز مثلاً تبتغي ولا تريد؟

تراود يفيد التكرار، ما هو مرة واحدة، تراود.

المراودة مرة بعد مرة، فلو أردت تأتي بكلمة أخرى، ماذا ستقول؟ 

تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ [سورة يوسف:30] إضافة الفتى إليها باعتبار الوضع الخُلقي من صاحبة الفضيحة، يعني: ذهبت إلى الخادم؟ وإلى العبد؟

يعني لو ذهبت على واحد مثلها في الطبقة أو في المنزلة من علية القوم، راحت على فتاها، نزلت إلى مستوى الخدم الآن، ذهبت أسفل إلى العبيد والخدم.

فهذه الكلمات ما يمكن تأتي بغيرها لتدل على نفس مدلولها، وكذلك قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [سورة العنكبوت:14].

والفائدة في ذكر مدة لبثه  أنه كان يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام – يعني محمد ﷺ فقيل له: إن نوحاً لبث ألف سنة تقريباً في الدعوة ولم يؤمن من قومه إلا القليل، ويُلاحظ في الآية أنه عبر من مدة لبث نوح في قومه بالسنة فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة العنكبوت:14].

وأما الأيام التي عاشها بعد غرق قومه، فعبر عنها بلفظ العام.

لاحظ؛ فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين سنة؟ لا إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا.

وكذلك لم يقل: فلبث فيهم ألف عام إلا خمسين عاماً، لا، قال: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [سورة العنكبوت:14].

لأن السنة عند العرب فيها معنى الشدة، والجدب، والقحط، وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [سورة الأعراف:130]. بالشدة والجدب والقحط، فكأن 950 سنة هذه التي لبثها نوح في قومه كانت قحط في الاستجابة، وجدب في التأثر، أما “العام” قد يستعمل في الرخاء.

قال الله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [سورة يوسف:49].

Facebook
WhatsApp
Twitter
Pinterest
Reddit
Telegram
Email
Print

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top