غرس القيم الدينية والتربوية وبناء الإنسان

تأثير القرآن على القلوب والألسن

ومن عجائب القرآن تأثيره على القلوب والألسن، حتى أنك ترى الرجل الأعجمي الذي لا يعرف اللغة العربية إذا أراد أن يتعلّم القرآن سهّل الله عليه الأمر فحفظه وهو لا يعرف معانيه، لا يعرف العربية، يوجد أعاجم يحفظونه من أوله إلى آخره، لو تسأله عن شيء فيه يقول لك لا أدري.

بل العجب أن بعض الخطباء من المسلمين العرب لما خطبوا وكان يسمع الخطبة بعض الكفار الأعاجم فإن بعض الكفار كانوا يميزون الآيات عن غيرها، كما حكى أحد دعاة المسلمين أنه خطب الجمعة في قوم على سفينة كبيرة، وفيها من الأوروبيين والأعاجم، وبعد انتهاء الصلاة، قال: جاءت إحدى الأوروبيات عجوز كبيرة في السن لتهنئنا على نجاح القدّاس، أقرب شيء في مفهومها لما رأته قدّاس -مثل جمع الكنيسة، ثم قالت: عن أي شيء تكلمتم وعن أي شيء تحدثتم فجعلنا نترجم لها.

ثم قالت: لكن كلام خطيبكم هذا كان يشتمل على مقاطع لا تشبه المقاطع الأخرى، إنها مقاطع مميزة، لها روحانية، طعمها مختلف، فعرفنا أنها تشير إلى آيات القرآن مع أنها لا تعرف اللغة العربية.

ومن العجائب أن بعض الدعاة قد ذهبوا إلى الحبشة وخطبوا فيهم، والقوم ما كانوا يعرفون اللغة العربية.

قال: فتعجبتُ أنهم كانوا يبكون عند سماع الآيات دون غيرها.

ومن العجيب أن القرآن يؤثر في الكافر في الرقية مع كفره، كما فعل أبو سعيد الخدري لما قرأ سورة الفاتحة سبع مرات ورقى بها سيّد حي من المشركين من لدغ العقرب فشُفي، وكانوا قد صالحوهم على عدد من الغنم.

إذن، هذا القرآن يؤثّر، وهناك تجارب على أعاجم يُقرأ عليهم كلام عادي، ويُقرأ عليهم قرآن، فيميزون أن هذا غير هذا؛ مع أنهم لا يعرفون اللغة العربية.

افتتاح بعض سور القرآن بالحروف المقطعة

ومن عجائب القرآن هذه الافتتاحات بالأحرف المقطعة… ألم، ح، م، ص، ق، ن.

وهي للتحدي والإعجاز والإشارة إلى أن هذا القرآن من عند الله بهذه اللغة التي هذه حروفها، فهاتوا مثله يا أصحاب اللغة التي هذه حروفها.

قال ابن كثير -رحمه الله: “مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها، يعني في “ألم” أكثر من مرة، مثلاً بحذف المكرر مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور منها أربعة عشر حرفاً، وهي: أ، ل، م، ص، ر، ك، ي، ع، ط، س، ح، ق، ن. يجمعها قولهم: نص حكيم قاطع له سر.

قال: وهي نصف الحروف عدداً، هذه 14 نصف حروف الهجاء.

قال ابن كثير: “والمذكور منها أشرف من المتروك”[15].

هذه الحروف المذكورة في الأحرف المقطعة أشرف من الأخرى التي لم تذكر في الأحرف المقطعة.

قال ابن القيم -رحمه الله: تأمل سِر “ألم” كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة، فالألف إذا بُدئ بها أولاً كانت همزة “ء” وهي أول المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط مخارج الحروف.

عندنا حروف من أقصى، وحروف من وسط، وحروف من المقدمة، في علم المخارج.

شيء من أقصى، وشيء من الوسط، وشيء من الأمام والمقدمة.

قال “أ” ألف من أقصى، واللام من الوسط، وهي أشد الحروف اعتمادا ًعلى اللسان؛ لأن الحروف عند خروجها تختلف في درجة اعتماديتها على اللسان، فاللام أشد حرف يعتمد على اللسان، أكثر حرف يعتمد على اللسان في خروجه. قال: “والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم”.

فشيء من أقصى الحلق، من جهة الصدر، وشيء من الوسط وشيء من الأمام.

قال: “وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف”، أصول المخارج، أعني الحلق واللسان والشفتين.

مخارج الحروف تنبع من الحلق، واللسان، والشفتين.

قال: “وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق، وتوسطه، ونهايته، فمشتملة على تخليق العالم وغايته، وعلى التوسط بين البداية والنهاية بالتشريع والأوامر”.

فتأمل ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم، وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة، كيف نجد السورة مبنية على ذلك الحرف، فمن ذلك: “ق” والسورة مبنية على الكلمات القافية من ذكر القرآن وذكر الخلق وتكرير القول ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، قول العبد وذكر الرقيب، وذكر السائق والقرين والإلقاء في جهنم، والتقديم بالوعيد، وذكر المتقين وذكر القلب والقرون والتنقيب في البلاد، وذكر القيل مرتين، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي، وسوق النخل، والرزق، وذكر القوم وحقوق الوعيد ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة، وسر آخر وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح وإذا أردتَ زيادة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة (ص) من الخصومات المتعددة، وكلمة خصومة فيها الصاد، فأولها خصومة الكفار مع النبي ﷺ.

وقولهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [سورة ص:5]. ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم؛ وهو الدرجات والكفارات، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانياً في شأن بنيه وحلِفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم، فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير صاد؟ وبسورة قاف غير حرفها؟ وهذه قطرة من بحر أسرار هذه الحروف”[16].

هذا الكلام وجهة نظر من ابن القيم -رحمه الله- والمقصود هو محاولة منه -رحمه الله- لإيجاد علاقة بين الحرف وبين ما اشتملت عليه السورة من المقاصد والمعاني، موضوع السورة وعلاقتها بالحرف المبدوءة به.

وكذلك قوله تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة النساء:1].

مع قوله تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [سورة الحج:1].

سورتان من القرآن صدرهما: يَاأَيُّهَا النَّاسُ الأولى سورة النساء في النصف الأول وهي الرابعة من سُوَره.

والأخرى الحج في النصف الثاني وهي الرابعة من سوره أيضاً.

ثم التي في النصف الأول مصدّرة بذكر المبدأ: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة النساء:1]، والتي في النصف الثاني مصدّرة بذكر المعاد.

لاحظ… يَاأَيُّهَا النَّاسُ جاءت في مطلع سورتين، السورة الأولى الرابعة من النصف الأول، السورة الثانية الرابعة من النصف الثاني، لكن التي من النصف الأول: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة النساء:1].

مبدأ الخلق.

الموضع الثاني: يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَة [سورة الحج:1]، نهاية الخلق والحياة قبل قيام الساعة.

اشتمال القرآن على المقلوب المستوي

ومن العجائب اشتماله على بعض اللطائف مثل المقلوب المستوي، وهذا الكلام أقل أهمية من السابق، لكن ملاحظات لبعض أهل العلم، مثلاً نحن ذكرنا الملاحظة الأولى لابن القيم في العلاقة بين الأحرف المقطعة ومواضيع السورة اجتهاد.

الثاني من تفسير النيسابوري في قضية: يَاأَيُّهَا النَّاسُ.

الثالث الآن المقلوب المستوي، مثال: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة الأنبياء:33].

قال ابن عاشور: “ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ نلاحظ أنها تُقرأ من الجهتين بنفس الكيفية: كُلٌّ فِي فَلَكٍ عكسها: كُلٌّ فِي فَلَكٍ.

قال الطاهر بن عاشور: “فيه محسن بديعي، فإن حروفه تُقرأ من آخره على الترتيب كما تُقرأ من أولها مع خفة التركيب ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة”.

قال: “ومثله قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [سورة المدثر:3].

اعكس: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [سورة المدثر:3].                      

قال: “بطرح واو العطف وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف، وهذا النوع سماه السّكاكي: “المقلوب المستوي” وجعله من أصناف نوع سماه: القلب، وخُصّ هذا الصنف مما يتأتى القلب في حروف كلماته وسماه الحريري في المقامات: “ما لا يستحيل بالانعكاس” ما لا يستحيل يعني: ما لا يتغير بالانعكاس، “وبنى عليه المقام السادس عشرة”.

فالحريري في المقامات هو أصلاً أخذ الفكرة “سر فلا كبا بك الفرس”، العبارة تُقرأ من اليمين ومن الشمال من كُلٌّ فِي فَلَكٍ [سورة الأنبياء:33]، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [سورة المدثر:3]، وبنى المقام السادس عشرة، مقامات الحريري على المقلوب المستوي، ووضح أمثلة نثراً ونظماً”[17].

قول الله تعالى: وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [سورة الشورى:24].

كلمة “يمحو” ماذا نلاحظ فيها؟ طريقة الكتابة في المصحف: يَمْحُ الْبَاطِلَ الواو!

يمحو الباطل مكتوبة في القرآن بحذف الواو، مع أن الواو من أصل الفعل، مع أنها ليست مجزومة، ومع ذلك الواو محذوفة، والسر في حذفها: دلالة على السرعة، تدل على سرعة ذهاب الباطل واضمحلاله.

قال البقاعي: “حذفت واوه في الخط في جميع المصاحف”.

المصحف العثماني، كل المصاحف ما هي مذكورة الواو، ليست مكتوبة في خط المصحف مع أن الفعل ليس مجزوماً وهو واو “يمحو” لكن يَمْحُ الْبَاطِلَ لماذا حذفت الواو؟

قال: “لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً، إيماءً إلى أنه سبحانه يمحق رفعه وعلوه وغلبته كما محيت هذه الواو، وفي الحذف أيضاً تشبيه له بفعل الأمر إلى أن إيقاع هذا المحو أمر لا مفر منه”[18

Facebook
WhatsApp
Twitter
Pinterest
Reddit
Telegram
Email
Print

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top